عندما اقدمت حكومة ديفيد كمرون على اجراء استفتاء للبقاء ضمن الاتحاد الاوروبي او الخروج منه ، هل كان يدور في خلد رئيس الوزراء ديفيد كمرون ان النتيجة ستكون كما ظهرت وهي ان الشعب البريطاني سوف يختار الخروج من الاتحاد الاوروبي ، وعلى أي حال فلم يكن امامه للحفاظ على مصداقيته إلا اجراء الاستفتاء تنفيذا لوعده اثناء الحملة الانتخابية التي اتت بحزبه الى السلطة في عام 2015 ، وفعلا قام بإجراء الاستفتاء في السنة التي تلت سنة الفوز في الانتخابات ، وقد بذل جهدا لبقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الاوروبي ، إلا ان النتائج لم تكن كما توقع ديفيد كمرون ، فقدم استقالته لتأتي بعده تريزا ماي التي كانت تشغل منصب وزارة الداخلية في الحكومة المستقيلة .
بعد ان تولت تريزا ماي السلطة تحمست للخروج من الاتحاد الاوروبي ، وقررت اجراء انتخابات مبكرة وطالبت مجلس العموم البريطاني للتصويت على اجراء انتخابات مبكرة ، مع انها لم تكن في حاجة لها ، ولكنها قالت ان الانتخابات المبكرة هي افضل طريقة لضمان الاستقرار خلال السنوات المقبلة ، كما طالبت بتجنب الانقسامات بشأن الخروج من الاتحاد الاوروبي ، وقالت : لو لم تجرى الانتخابات المبكرة فان الخلافات في البرلمان ستسبب زعزعة الاوضاع ، وقالت : ان لم نعقد الانتخابات العامة الآن ، فسوف يستمر تلاعبهم السياسي ، وسوف تبلغ المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي اصعب مراحلها قبيل موعد اجراء الانتخابات العامة المقبلة ، وتحدت احزاب المعارضة بان يثبتوا انهم لا يعارضون الحكومة من اجل المعارضة فقط ، ولم يتردد زعيم حزب العمال في تأييد ماي لإجراء الانتخابات المبكرة ، ولم تأتي النتائج كما كانت تتوقع وانما كانت خسارة مهينة لها ، ففي حين كانت لديها الاغلبية وتحكم بدون الحاجة الى الاستعانة بأحزاب اخرى ، اضطرت هذه المرة للدخول في تحالف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي من ايرلندا الشمالية الذي ابدى استعداده لتأمين موقف ماي ، وقد كانت خسارة ماي وحزبها انتصار لحزب العمال وزعيمه جيرمي كوربن الذي طالب تريزا ماي بالاستقالة ، وقد رفضت الاستقالة وقامت بتشكيل حكومة اقلية بمساندة الحزب الاتحادي الايرلندي .
لم تضعف تريزا ماي ولم تتردد ولم تتباطأ ، بل شمرت عن ساعد الجد وانطلقت تناضل وتصارع وتحارب على اكثر من جبهة ، وقد كانت الخيارات امامها محدودة ، فهي من الاساس من مؤيدي الخروج من الاتحاد الاوروبي ، ولكن ليس بالثمن الذي يطلبه الاوروبيون ، ولذلك دخلت في مفاوضات مضنية مع الاوروبيين الذين لم يكونوا يتوقعون خروج بريطانيا ، وبالتالي لن يتساهلون معها لئلا يتشجع الآخرون ممن قد يحذو حذو المملكة المتحدة وحتى لا ينفرط عقد الاتحاد الاوروبي خصوصا في ظل صعود اليمين المتطرف في بعض الدول الاوروبية مما جعل المفاوضون الاوروبيون يضعون العراقيل في طريق المفاوضين البريطانيين ويحرمونهم من الكثير من المزايا التي كانت تريزا ماي وفريقها التفاوضي يتوقعونها ، ولكنها لم تستسلم بل واصلت التفاوض مع الاوروبيين حتى توصلت الى ما يمكن الحصول عليه من الاوروبيين ، إلا ان ذلك لم يرضي اعضاء مجلس العموم البريطاني اذ تم رفضه ، وقد مثل هذا الرفض هزيمة لتريزا ماي ، ولولا صلابتها وقوة شخصيتها واصرارها على عدم الاستسلام لكانت انهارت ، او قدمت استقالتها كما طالبها الكثيرون من المعارضة ومن داخل حزبها ، ولكنها رفضت الاستقالة ووعدت بإعادة صياغة بعض بنود الاتفاق والتفاوض مع الاتحاد الاوروبي وقالت انها عازمة على الخروج من الاتحاد الاوروبي باتفاق او بغير اتفاق ، وقد تمكنت من النجاة من التصويت بنزع الثقة من حكومتها والتي ظن خصومها انها كانت النهاية لها .
احد الخيارات المتبقية لرئيسة الوزراء الحديدية هو اعادة الاستفتاء الذي لم تذكره ولا يظهر انها تفكر فيه ، مع ان الكثير من المراقبين يعتقدون انه لو تم اعادة الاستفتاء لربما صوت البريطانيون بالبقاء ضمن الاتحاد الاوروبي بالنظر للصعوبات التي تنتظرهم فيما لو خرجت بريطانيا بدون اتفاق ، كما ان الخروج باتفاق بشروط قاسية ومضرة بمصالح الشعب البريطاني خصوصا وان نسبة الفرق في الاستفتاء السابق بين من يريد الخروج ومن يريد البقاء لم تكن كبيرة ، فلماذا تصر رئيسة الوزراء على استبعاد الاستفتاء من جديد ؟ أما زعيم المعارضة فهو لا يرغب اعادة الاستفتاء ، ولكنه يريد الذهاب الى انتخابات مبكرة فقد يكون حظه فيها اوفر .